الخميس، مارس 12، 2009

المامبو السوداني


مقالة للكاتب حسين شبكشي بجريدة الشرق الأوسط بتاريخ الخميس 12 مارس 2009

أولا، لا بد أن أقدم جزيل شكري وامتناني للرئيس السوداني عمر حسن البشير على تفضله بإزالة الرتابة عن المشهد السياسي العربي وتقديمه «نموذجا» للمسرح السياسي الهزلي. لقد أعطانا أخيرا فصولا متلاحقة من «الترفيه» و«الاستمتاع» العجيب، من خلال ردود فعله لقرار محكمة الجرائم الدولية ومذكرة التوقيف الصادرة بحقه.

كيف واجه الرئيس السوداني هذا الموقف العصيب؟ لقد صرح عن هذا بقوله إن قرار المحكمة من الممكن أن «يبلوه ويشربوا مويته». ولم يكتف بهذا القدر من الإبهار، بل قدم نموذجا آخر في البلاغة وفي الحكمة، حينما أضاف على ما قال بأنهم لن ينالوا منه حتى «يلحسوا أكواعهم»، وبعدها استمر البشير في التعامل مع الحقيقة السياسية الجديدة المؤلمة بأسلوب هزلي حزين، بقدر ما كان يأتي بالابتسامات والضحكات، وإن كانت تثير الحزن والشفقة على ما آلت إليه الأمور مع هرم السلطة السياسية في بلد عربي عزيز.

ثم استمر البشير في التعامل «بعصبية» مع الأحداث ومحاولة «استفزازهم»، فارتدى زياً أفريقياً، قيل إنه زي أبناء جنوب السودان، وأثار ظهوره في هذا التوقيت وبهذا الشكل الكثير من التعليقات التي كان في غنى عنها، ولعل أطرف التعليقات ما قاله أحد المعلقين على أهل الجنوب السوداني للبشير وظهوره بالزي الغريب «مش هي دي الحفلة اللي بيغلعولها»؟ واستمر مسلسل المفاجآت والإخفاقات، فتوجه البشير طائرا لعاصمة إقليم دارفور، متحديا المحكمة الدولية وقراراتها ليشعر أهالي دارفور أنه «منهم وفيهم»، ولكن بعد إيه؟ وهنا لا بد أن تنطبق حكمة كوكب الشرق أم كلثوم على هذه الواقعة حين قالت: وعايزنا نرجع زي زمان قول للزمان ارجع يا زمان».

وطبعا لم تفت البشير الفرصة في «الزج» بالإسلام في وسط هذه المعمعة كلها، واعتبر أن قرار المحكمة الدولية بحقه هو «حرب» على الإسلام نفسه، وعلى الجميع مقاومة ما يحدث، واستخدم من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة لتدعيم الحجج وشحن العواطف لهذه الغاية، وبعدها أتحفنا الرئيس السوداني بقنبلته الهائلة حين قال إن قرارات المحكمة الدولية «تحت جزمتي». ولاحظ الكثيرون كيف تعاملت وكالات الأنباء ووسائل الإعلام المختلفة مع مواقف الرئيس البشير، فلم يأخذها أحد بمأخذ الجد، بل أخذت بالهزل والسخرية الشديدة. المركب في السودان ثقبت، ولا يمكن أن يسمح بإغراقها والمكابرة لأجل شخص واحد فيه من الشيء الكثير.

هناك أشخاص غير بسيطين من الشامتين والمستغلين لهذا الظرف الحساس، فوجدنا قائد المتمردين في دارفور يزور إسرائيل علانية ويعلن عن تعامل مع أجهزتها الاستخباراتية والعسكرية، في علاقة أقل ما يقال عنا إنها خبيثة وغير بريئة، وها هو حسن الترابي الشريك السابق في السلطة مع الرئيس البشير يظهر التشفي والشماتة وهو «يصرح» ويؤيد المحكمة الدولية، متناسيا أنه كان طرفا أساسيا في تردي الأوضاع بالسودان، حين جازف بالبلاد في مغامرات حمقاء، وعادى فيها كل جيرانه، وأطاح بروح السماحة التي اشتهرت عن السودانيين.

اليوم السودان يدفع ثمنا باهظا لمغامرات طائشة وإنكار جاهل، ولكن السودان ليس فردا بعينه ولا أفرادا يحمون هذا الفرد. مشكلة دارفور أنها كانت سلسلة من الأخطاء التراكمية في حق الناس وحرمانهم من العيش بكرامة وأمان، وطالما لم تتم مواجهة لهذه المسألة بصدق وأمانة، ستكون كل المشاهد ما هي إلا فصول في سيرك سياسي حزين وبائس.

السودان بلد عزيز وكريم ويستحق الأفضل.. وهذه مسألة آن أوانها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق