السبت، ديسمبر 06، 2008

د.عبدالوهاب الأفندي..وأنكشاف المشروع الأسلامي (5)

الوجه الآخر هو أن الحركات الإسلامية كانت وماتزال تخوض نضالاً من أجل الوجود، خاصة في أعقاب الانقضاض على الديمقراطية في الجزائر ودول عربية أخرى.
ومن هذا المنطلق فإن التزام هذه الحركات بالعملية الديمقراطية وإقناع الآخرين بهذا الالتزام يعتبر من أمضى الأسلحة في يد هذه الحركات، خاصة أمام الرأي العام الغربي.
وقد كانت زيارة الشيخ الترابي إلى لندن والولايات المتحدة تهدف تحديداً إلى كسب الرأي العام الغربي استناداً إلى رصيده كمفكر إسلامي مرموق يقود حركة تجديدية تهدف لمصالحة الإسلام مع عصره.
وقد كان بدأ يتبلور في الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً تياران رئيسيان بين الخبراء وصناع السياسة: الأول وكان التيار الأوسع يدعو إلى التعامل مع الحركات الإسلامية باعتبارها القوى الصاعدة ذات الوزن الجماهيري والتوجه المعتدل. وكانت هذه المجموعة تستشهد - نعم لقد صدق حدسك- بأقوال وممارسات القيادات الإسلامية في السودان ومصر والأردن وتونس وغيرها، وعلى رأسها الشيخ الترابي. أما المجموعة الأخرى، ومعظمها من أنصار إسرائيل والحكومات العربية إياها، فقد كانت ترفض فكرة وجود معتدلين وسط الحركات الإسلامية وتسعى لأن تربط بينها وبين الإرهاب وتشكك في مؤهلاتها الديمقراطية.
وأذكر هنا أنني كنت أشارك في مؤتمر أمريكي في مطلع عام 1992 بعيد إلغاء الانتخابات البرلمانية في الجزائر من قبل العسكر، حيث اعتلى المنبر خبير أمريكي مرموق فهاجم موقف الحكومة الأمريكية المتخاذل تجاه دعم الديمقراطية في الجزائر، وطالبها بتغيير موقفها. وفي أثناء الاستراحة رأيت أحد أقطاب المعارضة السودانية يقترب من الخبير ويتحدث معه مطولاً. وعندما عاد الرجل إلى الحديث مجدداً اعتذر عن موقفه السابق قائلاً إن بعض أهل العلم من المنطقة قد صححوا مفاهيمه، وأنه الآن مقتنع بأن موقف الحكومة الأمريكية صحيح لأن الإسلاميين لا يريدون الديمقراطية!وقد كانت زيارة الترابي إلى لندن ذات دلالة عميقة لأنها كرست تحول الشيخ ومواقفه من سلاح في يد أنصار التعامل مع الإسلاميين إلى سلاح في يد خصومهم.
وقد كنت قبل ذلك بدأت في تلقي شكاوى مريرة من بعض رموز هذا التيار من الأكاديميين ممن كانوا احتفوا بالشيخ وأفكاره واستخدموها سلاحاً في سجالاتهم مع المعسكر الآخر، حيث عبروا عن خيبة أملهم في التطورات التي شهدها السودان، وكيف أنهم أصبحوا يعيرون بمواقفهم المؤيدة لاستيعاب الإسلاميين لهذا السبب. ولمن يكن أمامي وأمام هؤلاء الأصدقاء من أن ننبه إلى خطورة الاتجاه الذي سارت فيه الأمور ونطالب بسرعة تصحيح المسار قبل فوات الأوان.يمكن تلخيصاً أن يقال إن الحركة الإسلامية السودانية واجهت تحدياً كبيراً لجعل أفعالها تنسجم مع أقوالها، وإعطاء صورة ناصعة للممارسة الإسلامية تكون حجة للإسلاميين لا عليهم.
ولكن القيادات، وعلى رأسها الشيخ الترابي، اختارت أن تضع المشروع الإسلامي برمته، وليس في السودان فحسب، رهينة في أيدي جلادي الأجهزة الأمنية وغيرهم من صغار التنفيذيين، فكان ما كان. ولم يكن الإسلاميون بدعاً في هذا، فقد سقط المشروع الماركسي من قبل بنفس الطريقة، وتلته المشروعات القومية في مصر وسوريا والعراق وغيرها، بحيث أصبح أهل الفكر في هذه التجارب رهائن في أيدي فتوات الأحزاب وخداماً لهم. الفرق في الحالة السودانية هو أن الشيخ الترابي لم يكن ميشيل عفلق ولا تروتسكي النظام السوداني في عهده، بل كان لينينه، لأن الأمر كله كان بيده، فلم يكن له عذر الآخرين في أنه كان مغلوباً على أمره. ولهذا فإنه وكل الإسلاميين يتحملون وزر الوضع الذي تلوثت فيه سمعة السودان والإسلام معاً بممارسات الظلم والتعذيب والقتل الجماعي، وكفي به إثماً مبيناً يحتاج إلى توبة نصوح قبل فوات الأوان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق